بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد و على ال سيدنا محمد
مشاريع إبادة أهل بيت النبوة!
كانت حياة الهاشميين عامة، وأهل بيت النبوة خاصة، سلسلةً أو حلقات متواصلة من الألم والعذاب والمعاناة، فكلما دفن أهل بيت النبوة شهيداً أردى خصومهم شهيداً آخر، وكلما ودّع أهل بيت النبوة كوكبة من خيرة فتية أهل الأرض قتل خصومهم كوكبة أخرى، وإذا انتهت محنة نبتت على أثرها محنة، وإذا التأمت جراحات جدّت جراحات.
والعلة في ذلك أن خصوم أهل بيت النبوة وطوال التاريخ الإسلاميّ كانوا يعتبرون أهل البيت شوكة شجا في حلوقهم، وسدّاً منيعاً يقف أمام غصبهم وأطماعهم.
وقد توصل خصوم أهل بيت النبوة إلى نتيجة مفادها أن أمر أولئك الخصوم لا يستقيم أبداً ولا يصفو لهم وجه المُلك إلا إذا تخلصوا من آل محمد، وأبادوهم نهائياً من الوجود؛ لأن أولئك الخصوم وفي قرارة أنفسهم يعلمون علم اليقين أن الرئاسة والقيادة أو المرجعية حق إلهي خالص لمحمد ولذرية محمد، وطالما أولئك الخصوم قد سلبوا آلَ محمد حقَّهم وغصبوه، فلا يأمنوا من أن يسترد المغصوب ما غُصب منه، لذلك صار أهل بيت النبوة بمثابة الهاجس الذي يُقلق مضاجع الغاصبين والخارجين على الشرعية الإلهية.
واستقرت فكرة إبادة أهل بيت النبوة في قلوب الخصوم وأذهانهم كحلِّ وحيد لمشكلتهم مع أهل البيت. وقد وُضِعت عدة مشاريع لإبادة أهل بيت النبوة، ونفذت تلك المشاريع فعلاً، ولاح للخصوم أن أهل بيت النبوة قد أُبيدوا بالفعل، وأن خطرهم قد ذهب إلى غير رجعة، وأن شجرتهم قد اقتُلِعت جذورها من الأرض تماماً. ثمّ خاب ظن الخصوم، فقد اكتشفوا أن شجرة النبوة الطاهرة أصلها ثاب وفرعها في السماء، وأن الله قد بارك هذه الشجرة، فإن تقطعت فروعها فإنها تنبت من جديد، لتبقى تلك الفروع الباسقة حامية لحمى الشرعية الإلهية، وحمى الإسلام، فما من عصر من العصور إلا و وُجد فيه من أهل بيت النبوة من هو أهل لقيادة الأمة ورئاستها ومرجعيتها؛ ليكون حجة وشاهداً على أولئك الذين صدعوا بأمر ربهم، وتمسكوا بالثقلين الأكبر كتاب الله، وبيان النبي لهذا الكتاب، والأصغر عترة النبي أهل بيته، وعلى أولئك الذين جحدوا أمر الله ووصية نبيهم، فتجاهلوا الثقل الأصغر، ثمّ ادعَّوا أن الثقل الأكبر يكفيهم ويغنيهم عن الثقل الأصغر لحاجة في نفس يعقوب قضاها!!
نماذج من مشاريع الخصوم لإبادة أهل بيت النبوة
لقد وضع خصوم أهل بيت النبوة عدة مشاريع للتخلص من أهل البيت وإبادتهم، لكن أبرز تلك المشاريع المشؤومة مشروعان، هما: كربلاء، وفَخّ.
1 ـ مشروع كربلاء لإباد أهل بيت النبوة
أثبتنا في معرض بحثنا لعمادة أهل بيت النبوة ـ عمادة الحسين بن علي بن أبي طالب ـ أن عدد الذين كانوا مع الحسين من آل محمد ومَن والاهم في كربلاء لا يتجاوزون جميعاً المائة رجل، وأن عدد جيش الحكم الذي خرج لحرب آل محمد ومَن والاهم والذي عَسكرَ في منطقة كربلاء قد بلغ ثلاثين ألف مقاتل بأقل الروايات، ومائة ألف مقاتل بأكثر الروايات. وبينّا أن جيش الحكم قد حال بين الحسين وآل محمد وأوليائهم ومن معهم من نساء وأطفال وبين الماء، وتلك حقيقة لا يقوى عاقل على إنكارها؛ فقد أجمع على صحة حدوثها كلُّ المؤرخين، فلو لم يقاتلهم جيش الحكم وتركهم لمدة أسبوع أو عشرة أيام أخرى لماتوا من العطش، ولما كانت هناك حاجة للقتال.
الخيارات المطروحة أمام جيش الحكم في كربلاء
لا يوجد تكافؤ بين جيش دولة عظمى في عصرها قوامه ثلاثون ألف مقاتل على الأقل وبين مائة رجل تمسّكوا بدينهم وموقفهم وحياتهم وذراريهم. وقيام جيش بهذا العدد والعدة بالهجوم على مائة رجل إهانة بالغة لشرفِ عسكريةِ ذلك الجيش. ثم ما هي الضرورة العسكرية الملحّة التي تجبر جيشاً قوامه ثلاثون ألف مقاتل للهجوم الشامل على مائة رجل قد حِيلَ بينهم وبين الماء وهم عطاشى لم يذوقوا الماء طوال عشرة أيام ؟!! ثمّ ألا يستطيع جيش بهذا العدد أن يأسر مائة رجل، محاصرين من جميع الجهات ؟!! أليس بإمكان ذلك الجيش المقتدر أن يأخذهم أسرى إلى « خليفة المسلمين » ليرى فيهم رأيه!!
إن المائة رجل مع الحسين ابن بنت النبيّ، ولم يكن على وجه الأرض ابن بنت نبي غيره، فلو كان الحسين رجلَ دين نصراني، أو حَبراً يهوديّاً، قد خرج هو ومن معه على السلطة، أليس من الحكمة والشرف العسكري، بل ومن الرجولة أن يُؤخذ هو ومن معه أسرى، وأن يُعامَلوا معاملة الأسرى التي أمر بها الإسلام، ثم يقادوا إلى « ولي الأمر » ليقضي بأمره ؟!
إنّ جيش الخلافة لم يعامل ابن بنت النبيّ وآل محمد وذوي قُرباه كما ينبغي أن يُعامَل اليهود والنصارى، بل وكما تقضي أخلاق الحرب الإسلاميّة أن يُعامل المشركون، إنما عاملهم معاملة يَندى لها جبين البشرية خجلاً، ويترفع حتّى الكفار والمشركون واليهود والنصارى والأمم المتوحشة عن معاملة خصومهم بها. ومع أن المائة رجل قد قُتلوا عن بكرة أبيهم بين يدَي ابن بنت النبي ودفاعاً عنه، ولم يَبقَ من الرجال إلا ابن بنت النبيّ، وكان بإمكان جيش الحكم أن يأسره إلاّ أن ذلك الجيش لم يأسر ابنَ بنت النبيّ إنما شنّ هجوماً شاملاً على رجل، ثمّ قتله وقطع رأسه، وأوطأ الخيلَ صدرَه وبطنه وهو ميت، ثم سلبه ثيابه الملطخة بالدم!!!
وبعد أن قُتل آل محمد وأولياؤهم تناول الحسين طفلَه ليودّعه ويقبّله، فشاهده جيش الحكم فرمى الطفل بسهامه حتّى قتله وهو في حضن أبيه! ولما انتهت المعركة وقُتل الحسين ومن معه وسيقت بنات الرسول كما تساق الأسارى وجرّوا عليَّ بن الحسين مع النساء مريضاً لا يقوى على الحركة، هَمّ عبيدالله بن زياد بقتله، لأنه تعجّب كيف ينجو من القتل ومن حرب الإبادة!! تلك حقائق سلّم بها كل مؤرخي المسلمين، وأرسلوها إرسال المسلَّمات.
إبادة أهل بيت النبوة هي الغاية الوحيدة
إن جيش الحكم لم يقاتل في قارة أخرى، غير القارة التي يتواجد فيها الحاكم وأركان دولته، إنما كان يقاتل بنفس القارة التي يقيم فيها الحاكم، وكانت أخبار الجيش تأتيه يوماً بيوم. ثم إن عبيدالله بن زياد أقل وأذل من أن يرتكب مثل هذه الفضائح على مسؤوليته ودون علم الخليفة وأركان دولته ومباركتهم. وهذا كله يعني أن الخليفة وأركان دولته قد قدّروا أنها فرصتهم الذهبية الوحيدة للتخلص من آل محمد وإبادتهم من الوجود، واقتلاع شجرة النبوة المباركة من جذورها الضاربة في الأرض، بدليل أن الحاكم كافأ عبيدالله بن زياد بملايين الدنانير الذهبية وولاّه على كلّ العراقيّين، واتخذه نديماً له وأميناً على ثغر مغنمه وجهاده كما قال!
لا أحد يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر!! (1)
لم يَروِ لنا التاريخ أن رجلاً واحداً من جيش « الخلافة »، ولا من أركان دولة الخلافة ولا من عليّة القوم أو من الأوباش قد استنكر هذه الفضائح أو أمر بمعروف ونهى عن المنكر أو مشى بوساطة خير، كأن قال للخليفة: إنما الحسين رجل واحد، ولن يضيرك امتناعه عن البيعة، ثم إنه ابن بنت النبي، وقتلُه « يا أمير المؤمنين » فيه حرج بالغ لنا ولكم، ونحن عبيدك يا أمير المؤمنين وأولاد عبيدك، فهبه لنا هذه المرة، ونعدك أن يبايعك ذات يوم!
ولكن لا عليّة الأمة ولا عامتها فعلوا ذلك، لقد أدبر المعروف وأقبل المنكر، وربما أدركت عليّة القوم بأنّ إبادة آل محمد هي المطلب.
2 ـ مشروع « فَخّ » لإبادة أهل بيت النبوة
تحدثنا في الفصول السابقة عن كربلاء، وعن فخّ، في معرض حديثنا عن عمادة أهل بيت النبوة، بالقدر الذي يفي بالحاجة، ونتحدث هنا عن فخّ بالقدر الذي يكفي لإبراز مشروع الخصوم لإبادة أهل بيت النبوة في فخّ.
محل إقامة أهل بيت النبوة في عصر فخّ
قسم من آل محمد كان تحت الإقامة الجبرية في « سُرّ مَن رأى » في العراق. العميد وصفوته يبقى دائماً تحت المراقبة الدائمة للسلطة المركزية!
والقسم الأعظم من آل محمد كانوا يقيمون في المدينة المنورة بجوار جدهم رسول الله.
الوضع السكاني في المدينة المنوّرة
كانت المدينة المنورة في الزمن الذي حدثت فيه المواجهة في فخّ تعجّ بالناس من مختلف المشارب والأهواء والألوان والأجناس والأعراق، من عرب وأحابيش وموالي، وأتراك وروم.. وكل واحد منهم آمِن على نفسه وأهله وماله، فلا أحد يسأل أحداً ما داموا خاضعين للخليفة، ومقرّين له بالولاء والطاعة، وعلى العموم لا يقدّمون حسابهم لأحد. ووالي الخليفة على المدينة راضٍ مرضي، فهو يثق بهم جميعاً.
الشغل الشاغل لوالي الخليفة على المدينة
كان الشغل الشاغل لوالي الخليفة على المدينة هم آل محمد وذوو قرباه، فهم وحدهم موضع الشك والتهمة، لذلك صبّ جام غضبه عليهم، فكان يَصفّهم يومياً كما يُصَفّ العبيد ويتفقدهم فرداً فرداً، ومن يتغيب منهم، يسومه سوء العذاب إذا عاد!! وإذا غاب فرد من آل محمد، فآل محمد مسؤولون مسؤولية جماعية عن غيابه، وقد يسجنهم الوالي جميعاً فلا يسمح لهم بالخروج إلا في الوقت اللازم لقضاء الحاجة أو للوضوء!
كل ذلك بدون مبرر، وظلماً وعدواناً، ولا سبب وجيه يدعو لذلك سوى أنهم من ذوي قربى النبي.
لقد صبر آل محمد على هذا الضيم حتّى عِيلَ صبرُهم. وكلما تجاوز الوالي الحدود كلما عشق أفعاله، وتفتقت ذهنيته المريضة عن ألوان وضروب أخرى من الإذلال، فجمع الحسينُ بن علي صاحبُ فَخّ الشهير آلَ محمد ومواليهم في المسجد، ثمّ أمر المؤذن أن يؤذن بالأذان الذي يؤذن فيه بزمن رسول الله « حيَّ على خير العمل »، فلما سمع والي الخليفة بالأذان فرّ وأدرك بأن آل محمّد قد قبضوا على ناصية الأمور في المدينة. وكالعادة هرع أهل المدينة ليبايعوا هذا الغالب « الحسين صاحب فخ »، وكان الناس يتأهبون للحج. وقرر صاحب فخّ أن يؤدي فريضة الحج وأن يشرحِ للمسلمين في مكة ما حدث في المدينة.
في فخّ / عقوبة مَن يتوجع
سار صاحب فخ من المدينة إلى مكة، ومعه قرابة 200 رجل من آل محمد وأوليائهم، بقصد أداء فريضة الحج وشرح ما حدث في المدينة.
ولما وصل إلى منطقة فخ فاجأته جيوش العباسيين. وهي جيوش عظيمة كان بإمكانها أن تأسر الحسين، وأن تأسر من معه بيسر وسهولة وترسلهم إلى الخليفة ليرى فيهم رأيه. وكما فعل الجيش الأموي في كربلاء فعل الجيش العباسي في فخ، فقتل الجيش العباسي ثمانين رجلاً أكثرهم من آل محمد، وأسر مائة وعشرين رجلاً. ولما أرسل الأسرى إلى الخليفة العباسي أمر بقتلهم جميعاً، وقُتلوا بالفعل دون ضرورة عسكرية توجب ذلك، وإنما كانت فخ مجرد مشروع للتخلص من آل محمد وإبادتهم تماماً كمشروع كربلاء.
ومن خلال هذين المشروعين تتضح رغبة خصوم آل محمد بإبادتهم ليصفو لهم وجه المُلك الذي غصبوه بالقوة والقهر من أهله الشرعيين.
عقوبة هدم بيوت بني هاشم
لما خرج الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة في طريقه إلى كربلاء، أمر والي المدينة عمرو بن سعيد بن العاص صاحبَ شرطته على المدينة أن يهدم دُورَ بني هاشم، فهدمها صاحب الشرطة فعلاً، وآذى من كان موجوداً من الهاشميين، وبلغ منهم كل مبلغ (2)
.
ولما قتل الإمام الحسين وآل محمد في كربلاء بعث عبيد الله بن زياد بشيراً لواليها على المدينة « فجاء البشير »، فقال له عمرو بن سعيد: ما وراءك ؟ فقال البشير: ما سرَّ الأمير، قُتل الحسين بن علي بن أبي طالب!! فقال: نادِ بقتله، فناديت، فلم أسمع واللهِ واعيةً قط مثلَ واعيةِ نساءِ بني هاشم في دُورهنّ على الحسين. فقال عمرو بن سعيد وهو يضحك:
عَجّت نسـاءُ بني زيادٍ عجّـةً كعجيجِ نِسوَتِنا غداةَ الأرنبِ (3)
وإذا كان الأمويون قد هدموا دور الهاشميين بعد خروج الحسين بن علي بن أبي طالب إلى كربلاء، فإن العباسيين قد هدموا دار الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بعد قتله في فخّ، وهدموا دور جماعة من أهل بيته، وحرقوا نخيلهم وصادروا أموالهم بعد قتل الثائر الهاشمي في فخ (4)
.
( الهاشميون في الشريعة والتاريخ،
للمحامي الأردني أحمد حسين يعقوب ص 356 ـ 362 )