من مجالس سيدي عبد القادر الجيلاني قدس الله سره
الاعتراض على الحق عزَّ وجلَّ عند نزول الأقدار موت الدين، موت التوحيد، موت التوكل والإخلاص. والقلب المؤمن لا يعرف لِمَ وكيف لا يعرف، بل يقول: بلى النفس كلها مخالفة ومنازعة، فمن أراد صلاحها فليجاهدها حتى يأمن شرها. كلها شر في شر، فإذا جُوهِدت واطمأنت، صارت كلها خيراً في خير. تصير موافقة في جميع الطاعات وفي ترك المعاصي. فحينئذ يقال لها (يا أيتها النفسُ المُطمَئِنة ارْجعي إلى رَبكِ رَاضِية ًمَرْضِيَّة) يصح لها توقان، ويزول عنها شرّها، ولا تتعلق بشيء من المخلوقات، يصح نسبها من أبيها إبراهيم عليه السلام، فإنه خرج عن نفسه وبقي بلا هوى يجري وقلبه ساكن. جاءه أنواع من المخلوقات وعرضوا نفسهم عليه في معونته وهو يقول: لا أريد معونتكم، علمه بحالي يغنيني عن سؤالي. لما صحّ تسليمه وتوكله قيل للنار: (كونِي بَرْداً وسَلاماً على إبْرَاهِيم) معونة الله عزَّ وجلَّ للصابر معه في الدنيا بغير حساب ونعيمه في الآخرة بغير حساب. قال الله تعالى: (إنمَا يُوَفى الصَّابرُونَ أجْرَهمْ بغيْرِ حِسَابٍ) لا يخفى على الله شيء بعينه، ما يتحمل المتحملون من أجله. اصبروا معه ساعة، وقد رأيتم لطفه وإنعامه سنين. الشجاعة صبر ساعة إن الله مع الصابرين بالنصر والظفر. اصبروا معه وانتبهوا له ولا تغفلوا عنه. لا تتركوا انتباهكم بعد الموت، فإنه لا ينفعكم الانتباه في ذلك الوقت. انتبهوا له قبل لقائه. انتبهوا قبل أن تنتبهوا بلا أمركم، فتندموا وقت لا ينفعكم الندم. وأصلحوا قلوبكم، فإنها إذا صلحَت صلح لكم سائر أحوالكم. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (في ابن آدم مُضْغة إذا صلحَت صلح لها سائر جسده، وإذا فسدت فسد لها سائر جسده، ألا وهي القلب). صلاح القلب بالتقوى، والتوكل على الله عزَّ وجلَّ، والتوحيد له، والإخلاص في الأعمال. وفساده بعدم ذلك. القلب طائر في قفص البنية، كدُرَّةٍ في حقة، كمالٍ في خزانة، فالاعتبار بالطائر لا بالقفص، بالدرّة لا بالحقة، بالمال لا بالخزانة.
اللهم اشغل جوارحنا بطاعتك، وقلوبنا بمعرفتك، واشغلنا طول حياتنا في ليلنا ونهارنا. ألحقنا بالذين تقدّموا من الصالحين، وارزقنا ما رزقتهم، كن لنا كما كنت لهم آمين.
يا قوم كونوا لله عزَّ وجلَّ كما كان الصالحون له، حتى يكون لكم كما كان لهم. إن أردتم أن يكون الحق عزَّ وجلَّ لكم، فاشتغلوا بطاعته والصبر معه والرضا بأفعاله فيكم وفي غيركم. القوم زهدوا في الدنيا وأخذوا أقسامهم منها بيد التقوى والورع، ثم طلبوا الآخرة وعملوا أعمالها. عصوا نفوسهم وأطاعوا ربهم عزَّ وجلَّ. وعظوا نفوسهم ثم وعظوا نفوس غيرهم.
يا غلام، عِظ ْ نفسك أوّلاً، ثم عِظ ْ نفس غيرك. عليك بخويصة نفسك، لا تتعدّ إلى غيرك وقد بقي تحتاج إلى إصلاحها. ويحك أنت تعرف كيف تخلص غيرك ؟ أنت أعمى، كيف تقود غيرك ؟ إنما يقود الناس البصير، إنما يخلصهم من البحر السابح المحمود. إنما يردّ الناس إلى الله عزَّ وجلَّ من عرفه، أما من جهله كيف يدل عليه ! لا كلام لك في تصرّف الله عزَّ وجلَّ وتحبه وتعمل له لا لغيره، وتخاف منه لا من غيره. هذا بالقلب يكون، لا بقلقلة اللسان. هذا في الخلوة يكون، لا في الجلوة. إذا كان التوحيد بباب الدار، والشرك داخل الدار فهو النفاق بعينه. ويحك أنت لسانك يتقي، وقلبك يفجر. لسانك يشكر وقلبك يعترض. قال الله عزَّ وجلَّ: "يا ابن آدم خيري إليك نازل، وشرُّك إليّ صاعد". ويحك تدّعي أنك عبده وتطيع سواه. لو أنك عبده على الحقيقة، لعاديت فيه وواليت فيه. والمؤمن الموقن لا يطيع نفسه وشيطانه وهواه. لا يعرف الشيطان حتى يطيعه، لا يبالي بالدنيا حتى يذلّ لها بل يهينها، ويطلب الآخرة فإذا حصلت له تركها واتصل بمولاه عزَّ وجلَّ، يخلص عبادته له في جميع أوقاته. سمع قوله عزَّ وجلَّ: (ومَا أمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخلِصِينَ لهُ الدِّينَ حُنفاء) دع عنك الشرك بالخلق ووحّد الحق عزَّ وجلَّ، هو خالق الأشياء جميعها وبيده الأشياء جميعها. يا طالب الأشياء مِنْ غيره ما أنت عاقل. هل شيء ليس هو في خزائن الله عزَّ وجلَّ ! قال الله عزَّ وجلَّ: (وإنْ مِنْ شيْءٍ إلاَّ عِندَنا خزائِنهُ).
يا غلام نمْ تحت ميزاب القدر موسداً الصبر، متقلداً بالموافقة، عابداً بانتظار الفرج. فإذا كنت هكذا صبّ عليك المقدّر من فضله ومننه ما لا تحسن تطلبه وتتمناه.
يا قوم وافقوا القدر واقبلوا من عبد القادر المجتهد في موافقة القدر. موافقتي للقدر تقدمني إلى القادر. يا قوم تعالوا نذلّ لله عزَّ وجلَّ ولقدره وفعله، ونطأطئ رؤوس ظواهرنا وبواطننا. نوافق القدر، ونمشي في ركابه لأنه رسول الملك نكرمه لأجل مرسله. فإذا فعلنا ذلك معه حملنا في صحبته إلى القادر، فهنالك الولاية لله الحق، يهنأ لك الشرب من بحر علمه والأكل من سِماط فضله، والاستئناس بأنسه والتغمّد برحمته. هذا لآحاد أفراد من كل ألف ألف واحد من جميع العشائر والقبائل.
يا غلام عليك بالتقوى، عليك بحدود الشرع والمخالفة للنفس والهوى والشيطان وأقران السوء. المؤمن في جهاد هؤلاء لا ينكشف رأسه عن الخود، لا ينغمد سيفه، لا يعر ظهر فرسه. على قربوس سرجه ينام. نوم القوم غلبة، أكلهم فاقة، كلامهم ضرورة، الخرس دأبهم. وإنما قدر ربهم ينطقهم، فعل الله ينطقهم ويحرك منطقهم في الدنيا كما ينطق الجوارح غداً يوم القيامة. ينطقهم الله عزَّ وجلَّ الذي ينطق كل ناطق، ينطقهم كما ينطق الجماد، يهيىء لهم أسباب النطق فينطقون. إذا أرادهم لأمرٍ هيّأهم له. أراد أن يبلغ الخلق بالنذارة والبشارة لارتكاب الحجة عليهم، فأنطق الأنبياء والمرسلين فلما قبضهم إليه أقام العلماء والعمّال بعملهم فينطقهم بما يصلح الخلق نيابة عنهم. قال صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء).
يا قوم اشكروا الله عزَّ وجلَّ على نعمه، وانظروها منه فإنه قال: (وما بكمْ منْ نِعْمَةٍ فمِنَ الله) أين الشكر منكم يا متقلبين في نعمه، يا من يرى نعمه من غيره. تارة ترونَ نعمه من غيره، وتارة تستقلونها وتنتظرون إلى ما ليس عندكم، وتارة تستعينون بها على معاصيه.
يا غلام تحتاج في خلوتك إلى ورعٍ يخرجك عن المعاصي والزلاّت، ومراقبة تذكرك نظر الحق عزَّ وجلَّ إليك. أنت محتاج مضطر إلى أن يكون هذا معك في خلوتك. ثم تحتاج إلى محاربة النفس والهوى والشيطان. خراب معظم الناس مع الزلات، وخراب الزهاد مع الشهوات، وخراب الأبدال مع الفكر والخواطر في الخلوات، وخراب الصّديقين في اللحظات، شغلهم حفظ قلوبهم لأنهم نيام على باب الملك. هم قيام قي مقام الدعوة يدعون الخلق إلى معرفة الحق عزَّ وجلَّ، لا يزالون يدعون القلوب. يقولون: يا أيتها القلوب، يا أيتها الأرواح، يا إنس ويا جن، يا مريدي الملك هلمّوا إلى باب الملك، اسعوا إليه بأقدام قلوبكم، بأقدام تقواكم وتوحيدكم ومعرفتكم وورعكم السامي والزهد في الدنيا والآخرة وفيما سوى المولى. هذا شغل القوم همّهم إصلاح الخلق، هِممهم تعمّ السماء والأرض من العرش إلى الثرى.
يا غلام دع عنك النفس والهوى. كن أرضاً تحت أقدام هؤلاء القوم، تراباً بين أيديهم. الحق عزَّ وجلَّ يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي. أخرج إبراهيم عليه السلام من أبويه الموتى بالكفر. المؤمن حي والكافر ميت. الموحّد حي والمشرك ميت. ولهذا قال الله عزَّ وجلَّ في بعض كلامه: أول من مات من خلقي إبليس يعني عصاني، فمات بالمعصية. هذا آخر الزمان، قد ظهر سوق النفاق، سوق الكذب. لا تقعدوا مع المنافقين الكاذبين الدجالين. ويحك، نفسك منفقة كاذبة كافرة فاجرة مشركة كيف تقعد معها ! خالفها ولا توافقها. قيِّدْها ولا تطلِقها، اسجنها وأجر عليها حقها الذي لابد لها منه. إقمعها بالمجاهدات. وأما الهوى فاركبه ولا تخله يركبك. والطبع فلا تصحبه، فإنه طفل صغير لا عقل له. كيف تتعلم من طفل صغير وتقبل منه ! والشيطان فهو عدّوك وعدوّ أبيك آدم عليه السلام. كيف تسكن إليه وتقبل منه وبينك وبينه دم وعداوة قديمة ! لا تأمن منه فإنه قاتل أبيك وأمك. فإذا تمكن منك قتلك كما قتلهما. اجعل التقوى سلاحك، والتوحيد لله عزَّ وجلَّ جندك. فهذا السلاح وهذا الجند هم الذين يهزمونه ويهدمونه ويكسرون جيشه. كيف لا تهزمه والحق معك !
يا غلام اقرن بين الدنيا والآخرة، واجعلهما في موضع واحد، وانفرد بمولاك عزَّ وجلَّ عرياناً من حيث قلبك بلا دنيا ولا آخرة. لا تقبل عليه إلاّ مجرداً مما سواه، ولا تتقيّد بالخلق عن الخالق. اقطع هذه الأسباب، واخلع هذه الأرباب. فإذا تمكنت فاجعل الدنيا لنفسك، والآخرة لقلبك، والمولى لسرّك.
يا غلام لا تكن مع النفس ولا مع الهوى ولا مع الدنيا ولا مع الآخرة، ولا تتابع سوى الحق عزَّ وجلَّ، وقد وقعت بالكنز الذي لا يفنى أبداً. حينئذ تجيئك الهداية من الحق عزَّ وجلَّ الذي لا ضلال بعدها. تبْ عن ذنوبك وهرولْ عنها إلى مولاك عزَّ وجلَّ. إذا تبت فليتب ظاهرك وباطنك. التوبة قلب دولة. اخلع ثياب المعاصي بالتوبة الخالصة، والحياء من الله عزَّ وجلَّ حقيقة لا مجازاً. هذا من أعمال القلوب بعد طهارة الجوارح بأعمال الشرع. القالب له عمل والقلب له عمل. القلب إذا خرج في فيافي الأسباب والتعلق بالخلائق ركب بحر التوكل، والمعرفة بالله عزَّ وجلَّ والعلم به، وترك السبب وطلب المسبّب. فإذا توسّط في هذا البحر فهنالك يقول: (الذِّي خلقنِي فهوَ يَهدِين) فيهدي من ساحل إلى ساحل، من موضع إلى موضع، حتى يقف على الجادّة المستقيمة. فكلما ذكر ربه تجلت جادّته وانكشف الدغل عنها. قلب الطالب للحق عزَّ وجلَّ يقطع المسافات، ويخلف الكلّ وراءه. فإذا خاف في بعض الطريق من الهلاك، برز إيمانه فشجّعه، فتخمد نيران الوحشة والخوف ويأتي بدلها نور الأنس والفرح بالقرب.
يا غلام إذا جاءك الداء فاستقبله بيد الصبر، واسكن حتى يجيء الدواء، فإذا جاء الدواء فاستقبله بيد الشكر فإذا كنت على هذا الحال، كنت في العيش العاجل. الخوف من النار يقطع أكباد المؤمنين، ويصفر وجوههم ويحزن قلوبهم. فإذا تمكن هذا منهم، صبَّ الله عزَّ وجلَّ على قلوبهم ماء رحمته ولطفه، وفتح لهم باب الآخرة، فيرون مأمنها. فإذا سكنوا واطمأنوا وارتاحوا قليلاً فتح لهم باب الجلال فقطع قلوبهم وأسرارهم، وكثر خوفهم أشد من الأول. فإذا تمّ لهم فتح لهم باب الجمال فسكنوا واطمأنوا وتنبهوا وتبوّؤا درجات هي طبقات شيء بعد شيء.
يا غلام لا يكن همّك ما تأكل وما تشرب وما تلبس وما تنكح وما تسكن وما تجمع. كل هذا همّ النفس والطبع، فأين همّ القلب والسرّ، وهو طلب الحق عزَّ وجلَّ. همّك ما أهمّك، فليكن همّك ربك عزَّ وجلَّ وما عنده. الدنيا لها بدل وهو الآخرة، والخلق لهم بدل وهو الخالق عزَّ وجلَّ. كلما تركت شيئاً من هذا العاجل أحدث عوضه وخيراً منه في الآجل. قدّرْ أن قد بقي من عمرك هذا اليوم فحسب. تهيأ للآخرة، تهدف لمجيء ملك الموت. الدنيا طباخة للقوم والآخرة معمرة لهم. فإذا جاءت الغيرة من الله عزَّ وجلَّ حالت بينهم وبينها، ويقام التكوين مقام الآخرة فلا يحتاجون لا إلى الدنيا ولا إلى الآخرة. يا كذاب أنت تحب الله عزَّ وجلَّ في حالة النعمة، فإذا جاء البلاء هربت كأن لم يكن الله عزَّ وجلَّ محبوبك. إنما يتبين العبد عند الاختبار. إذا جاءت البلايا من الله عزَّ وجلَّ وأنت ثابت، فأنت محبّ، وإن تغيّرتَ بَانَ الكذب وانتفض الأول وذهب. جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أحبك. فقال: استعدّ للفقر جلباباً. وجاء رجل آخر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أحب الله عزَّ وجلَّ. فقال: اتخذ للبلاء جلباباً. محبة الله ورسوله مقرونان بالفقر والبلاء، ولهذا قال بعض الصالحين: وكل البلاء بالولاء كي لا يدعي لو لم يكن كذلك، وإلا كان كل أحد يدّعي محبة الله عزَّ وجلَّ. فجعل الثبات على البلاء والفقر تنبيهاً على هذه المحبة (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنيَا حَسنة ً وفِي الآخِرَةِ حَسنة ً وقِنا عَذابَ النارِ).