السيدة سكينة
سكينة وكربلاء
إن لسكينة بنت الحسين عليهما السلام مواقف ومصائب كثيرة وكبيرة في كربلاء مصائب تفجع عليها القلوب ألماً وحزناً وتبكي العيون دموعاً ودماً، لما جرى على أهل هذا البيت الطاهر من قتل وتشريد وترويع وإحراق للخيام وسبي أهل بيت النبوة من بلاد إلى بلاد، وهذا جزء يسير جداً من مصائب السيدة سكينة.
سكينة واستشهاد علي الأكبر :
بعد أن بكى الإمام الحسين عليه السلام عند البدن المقطع لعلي الأكبر نادى شبان بني هاشم: "تعالوا احملوا أخاكم". وذهب الإمام إلى خيمة نساء أهل البيت بعيون باكية فسألته سكينة: "يا أبتي، لماذا أنت حزين؟ أين أخي علي؟"، فبكى الإمام ثم قال: "بُنية قتلوه اللئام " . فصاحت سكينة : "و ااخاه وا علياه"، وصرخت وقامت كي تخرج من الخيمة فأمسكها الإمام عليه السلام وقال: "يا ابنتاه اتقي الله واستعملي الصبر " ، فقالت سكينة: "يا أبتاه كيف تصبر من قتل أخوها وشرد أبوها". فقال الإمام عليه السلام: " إنا لله وإنا إليه راجعون " .
سكينة واستشهاد علي الأصغر:
كان علي الأصغر في حجر أبيه عندما أصابه سهم العدو في نحره النحيف وسال الدم على صدره، فأعاده الإمام عليه السلام إلى الخيمة واستقبلت سكينة أباها وقالت: "يا ابه لعلك سقيت أخي الماء؟"، فنزلت الدموع من عيني أبيها وقال: "بُنية هاك أخاك مذبوحاً بسهم الأعداء"، (معالي السبطين، ج1،ص 260).
وداع الإمام الحسين عليه السلام لسكينة:
حين رأى الإمام الحسين عليه الأجساد المدماة لأصحابه وشبان بني هاشم هيأ نفسه لمحاربة العدو ونادى: "هل من راحم يرحم آل الرسول؟ هل من ناصر ينصر ذرية الطاهرة البتول؟"، ثم ذهب إلى المخيم ونادى: "يا سكينة يا فاطمة يا زينب يا أم كلثوم عليكن مني السلام فهذا آخر الاجتماع وقد قرب منكن الافتجاع"، فإرتفع صوت نساء أهل البيت بالبكاء وقلن: الوداع، الوداع، الفراق، الفراق..
ونادت سكينة: "يا أبتاه أإستسلمت للموت فإلى من اتكل"، فقال الإمام الحسين عليه السلام: "يا نور عيني كيف لا يستسلم للموت من لا ناصر له ولا معين "، فقالت سكينة: "يا ابه، ردنا إلى حرم جدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"، فقال الإمام الحسين عليه السلام: " هيهات لو ترك القطا لنام ".
وعندما سمعت سكينة هذا الكلام من أبيها، بكت، وبكى الإمام الحسين عليه السلام أيضاً، وضمها إلى صدره، ومسح دموعها وقبلها وقرأ الأبيات التالية :
سيطـول بعدي يا سكينة فإعلمي منك البكاء اذا الحمـام دهــــاني
لا تـحـرقي قلـبي بدمعـك حسرة مادام مني الروح في جثمـــانـي
فإذا قـتـلـت فأنت أولــى بــالـذي تـأتـيـنـه يـا خـيــرة النـســــوان
سكينة وفرس أبيها المظلوم :
حينما سمعت نساء أهل البيت صوت الفرس، التفتت زينب سلام الله عليها إلى سكينة وقالت: "قد جاء أبوك بالماء فاخرجي إليه لتشربي"، ولما خرجت سكينة من الخيمة، رأت فرس أبيها قد جاء لوحده، بلا راكب، فلمّا رأته عارياً والسرج خالياً صرخت ونادت ملطخ بالدم فصاحت: "وا قتيلاه وا غريباه وا حُسيناه وا محمداه واجداه وا فاطمتاه...".
يقول فاضل دربندي: وضعت سكينة يدها على الرأس وقرأت الأبيات التالية:
مـات الفـخـارُ مـات الجــــود والـكـرم وأغـبـرت الأرضُ والآفـــاق والحـرمُ
وأغــلـق الله أبــواب الــســمـــاء فـــلا تــرقــي لـهـم دعـوة تـجـلى بها الهـممُ
يـا اخت قومي انظري هذا الجواد أتى يـنبـئـك ان إبـن خـيـر الخـلق مخـتـرم
مـات الحـسيـن فـيا لـهـفـي لـمـصرعه وصـار يـعـلوا ضـيــاء الأمـة الظــلــم
يا موت هل من فداً يا موت هل عوض الله ربــــــي مــن الفــجّـــــار يـنـتـقــم
ولما سمعت سائر نساء الحرم بكاء سكينة، خرجن من الخيمة وشاهدن فرس الإمام الحسين بلا راكب فضربن وجوههن بأيديهن وقلن: "وامحمداه واعلياه واحسناه واحسيناه... اليوم مات محمد مصطفى اليوم مات علي المرتضى اليوم ماتت فاطمة الزهراء...".
سكينة عند جسد أبيها:
حين مرت بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على مكان قتل الحسين عليه السلام وأصحابه وقعت أنظارهن على الشهداء فألقين أنفسهن من المراكب إلى الأرض وضربن على وجوههن وذهب كل واحدة إلى شهيد، واجتمعت زينب وأم كلثوم وسكينة وفاطمة عند البدن المقطع للإمام الحسين عليه السلام وأجهشن بالبكاء... وضمت سكينة الجسد المدمي لأبيها إلى صدرها وبكت وجاء عدد من الأشخاص ورفعوها عن البدن المطهر لأبيها (ولم يستطع أحد ان ينحيّها عنه حتّى اجتمع عليها عدّة وجرّوها بالقهر)..( المجلسي، بحار الأنوار، ج45، ص 59).
سكينة عند يزيد عليه لعائن الله:
لمّا أدخل نساء الحسين على يزيد بن معاوية صاحت نساء آل يزيد وبنات معاوية وأهله وولولن وأقمن المأتم ووضع رأس الحسين (عليه السّلام) بين يديه فقالت سكينة: "ما رأيت أقسى قلباً من يزيد ولا رأيت كافراً ولا مشركاً شراً منه ولا أجفى منه"، وأقبل يقول وينظر إلى الرأس:
ليت أشياخي ببدر شهدوا***جزع الخزرج من وقع الأسل
ساعة الوداع:
ساعة الوداع يوم "طف كربلاء"، افتقد الحسين ابنته الحبيبة سكينة سلام الله عليهما فوجدها منحازة عن النساء، باكية العين، كسيرة الفؤاد.
فأكب عليها يقبلها في لهفة وحنان، ثم رفع رأسه وقال في شجاعة واشفاق : "هلا ادخرت البكاء ليوم غد؟ تجلدي يا حبيبتي واصبري ان الله مع الصابرين":
سيطول بعدي يا سكينة فاعلمي
لا تُحرقـي قلبي بـدمعك حسرة
فإذا قتـلت فانت أولـــى بالـذي
منك البكاء إذا الحمام دهـانــي
ما دام مني الروح في جثماني
تأتينـه يا خيـرة النســـــــــوان
ها هي السيدة سكينة، واقفه على أرض كربلاء، بجانب جثة أبيها الإمام الحسين عليه السلام، مهيضة الجناح، حزينة القلب، تتزاحم الدموع في مقلتيها في حين تطوي الألم والحسرات بين أضلعها وتردد:
ان الحسيـن غـداة الطف يرشقه بكـف شـر عبـاد اللّـه كلـهم أأمة السوء هـاتوا ما احتجاجكم الويـل حـل بكم إلا بمن لحقـه يا عين فاحتفلي طول الحياة دماً ريب المنون فما ان يخطئ الحدقة نسل البغايا وجيش المرق الفسقة غداً وجلكـم بالسيف قد صفقـه صيرتموه لا رماح العدى درقه لا تبك ولداً ولا أهلاً ولا رفقـه لكن على ابن رسول الله فانسكبي قيحاً ودماً وفي اثريهما العلقة
ويختلط صوت سكينة مع صوت أمها الرباب، الثكلى الوالهة. تلك التي صغرت الدنيا في عينيها، وكبرت المصيبة عليها، فلم تقو على حملها لا تعرف غير البكاء والعويل. ونسمعها تردد وتقول : واحسيناً فلا نسيت حسيناً غادروه بكربلاء صريعاً اقصدتـه اسنـة الأعـداء لا سقى اللّه جانبي كربلاء
نعم، الرباب الزوجة الوفية المخلصة التي ترعى العهد والذمام فقد ذكرت الأخبار انها استغرقت في حزنها على الحسين، نادبة حزينة، لا يظللها سقف. وقد خطبها الكثير من الوجهاء والأشراف، ولكنها رفضت باصرار وقالت :
"ما كنت لا تخذ حماً بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"، ثم تشرق بدمعها وتقول نادبة:
"ان الذي كان نـوراً يستضاء به سبط النبـي جزاك اللًّه صالحة قد كنت لي جبلاً صعباً ألوذ به من لليتامى ومن للسائلين ومن واللّه لا ابتغي صهراً بصهركم بكربلاء قتيل غيـر مدفـون عنا وجنبت خسران الموازين وكنت تصحبنا بالرحم والدين يغني وياوي اليه كل مسكيـن حتى اغيب بين الرمل والطين" .
اتركوني عند والدي ومع الأصغر:
جاء في اللّهوف ما مضمونه: أنّهم لمّا أرادوا الخروج بسبايا آل محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم، إلى الكوفة، مرّوا بهنّ على القتلى، فألقين بأنفسهن على قتلاهن وأخذن يبكين ويصرخن، وكانت من بينهن بنت صغيرة للإمام الحسين عليه السّلام ـ ويظنّ أنها سكينة عليها السّلام ـ فلاذت بنعش أبيها وجلست حوله وهي قابضة على كتفه، وكفّه في حضنها، فتارة تشمّ كتفه، وتارة تضع أصابعه على فؤادها، وتارة على عينها، وتأخذ من دمه الشريف وتخضب شعرها ووجهها وهي تقول:
واأبتاه! قتلك أقرّ عيون الشامتين، وسرّ المعاندين، يا أبا عبد الله! ألبستني بنو أميّة ثوب اليتم على صغر سنّي، يا أبتاه! إذا أظلم اللّيل من يحمي حماي، يا أبتاه! انظُر إلى رؤوسنا المكشوفة، وإلى أكبادنا الملهوفة، وإلى عمّتي المضروبة، وإلى أمّي المسحوبة.
قال: فذرفت عند ندبتها العيون، فأتاهم زجر وقال: إنّ الامير نادى مناديه بالرحيل، فهلمّوا واركبوا، فأتت البنت إليه وقالت: يا هذا! سألتك بالله وجدّي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، أنتم اليوم تقيمون أو ترحلون؟قال: بل راحلون.
قالت: يا هذا! إذا عزمتم على الرحيل فسيروا بهذه النّسوة واتركوني عند والدي، فإنّي صغيرة السن ولا أستطيع الركوب، فاتركوني عند والدي أبكي عليه، فإذا متّ عنده سقط عنكم ذمامي ودمي.
فما كان من ذلك الجافي إلاّ أن دفعها عنه وأبعدها عنه، فلاذت الصغيرة بأبيها واستجارت به، فأتى إليها وجذبها من عند أبيها.
فقالت له: يا هذا! إنّ لي أخاً صغيراً فدعني أودّعه.
ثمّ اتجهت نحو أخيها تعدو نحوه، فلمّا أبصرت به انحنت عليه تلثمه وتقبّله، ثم جلست وتحسّرت، ورفعت جسد أخيها الصغير ووضعته في حجرها، ثم جعلت فمها على نحره الشريف وأخذت تلثمه وهي تقول:
أخي يا أخي! لو خيّروني بين المقام عندك أو الرّحيل عنك، لاخترت المقام عندك، ولو أنّ السِّباع تأكل لحمي وتشرب دمي، ولكنّ الأمر ليس بيدي وإنّما أجبرونا على فراقك وهجرك، فها أنا راحلة عنك، غير جافية لك، وهذه نياق الرحيل تتجاذبنا على المسير، قد أتونا بها مهزولة، لا موطئة ولا مرحولة، وناقتي يا أخي مع هزلها، صعبة الانقياد، فلا أدري أين يريد بنا أهل العناد، فاقرأ جدّي عليَّ المرتضى وجدّتي فاطمة الزهراء عنّي السّلام، وقل لهما: إنّ أختي شاكية إليكما حالها، قد خرموا أذنيها، وفصموا خلخالها، وبينما هي تكلّم أخاها الصغير وإذا بزجر يقطع عليها كلامها، ويجذبها عن جسد أخيها، ويركبها قهراً.
فلمّا استوت على النّاقة التفتت إلى جسد أبيها وقالت: يا أبة! ودّعتك الله السميع العليم، وأقرؤك السّلام، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العليّ العظيم...