بسم الله الرحمان الرحيم
اللهم صلي على سيدنا محمد وعلى اله الطيبين الطاهرين
التصوّف
التصوف موضوع عميق و واسع و متشعب و لكن إذا استطعت أن أثير المشاعر للاستزادة و الرغبة في معرفة عوالمه و النظر فيه بجدية و نزاهة و تجرد بحثا عن الحقيقة ، فقد وصلت إلى ما كنت أريده أو إلى بعضه.
إن كلمة تصوف و متصوفة و صوفية ، كلمة قد لا يشعر الكثير بالانجذاب إليها بل قد يكون العكس و يرى أنها مرادفة للخرافة و الدجل و الشعوذة و الا نقياد الأعمى في مجاهل الحياة هروبا من واقع الحياة و نضالها !! و ما هكذا التصوف و ما هكذا الصوفية .
و لكن البعد عنها و عدم معرفة حقيقتها أظهرها بهذا المظهر الباطل . فما قصد الصوفية في كل عصر و زمان إلا العودة بالمسلمين إلى ظلال الأنس بالله تعالى و نعيم مناجاته و سعادة قربه بإرجاع روحانية الإسلام إليه ..
و للتصوف تعاريف كثيرة منها تعريف سيد الطائفة الإمام الجنيد المتوفى عام ( 297 هـ ) إذ يقول : إن التصوف هو صفاء المعاملة مع الله . و قال بعضهم : التصوف كله أخلاق ، فمن زاد عليك بالأخلاق زاد عليك بالتصوف ..
أما تعريف التصوف بمعنى العلم المعروف المدون في كتبهم فهو : (علم بأصول يعرف بها صلاح القلب و سائر الجوارح ).
و كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجه اهتمام الصحابة لإصلاح قلوبهم و يبين لهم بأن الإنسان متوقف على إصلاح قلبه و شفائه من الأمراض الخفية و العلل الكافية ، و هو الذي يقول : ( ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب ) رواه البخاري و مسلم .
كما كان عليه الصلاة و السلام يعلمهم أن محل نظر الله إلى عباده إنما هو القلب : ( إن الله لاينظر إلى أجسادكم و صوركم و لكن ينظر إلى قلوبكم )
فما دام صلاح الإنسان مربوطا بصلاح قلبه الذي هو مصدر أعماله الظاهرة ، تعين عليه العمل على إصلاحه بتخليته من الصفات المذمومةالتى نهانا الله عنها و تحليته بالصفات الحسنة التي أمرنا الله بها. و عندئذ يكون القلب سليما صحيحا و يكون صاحبه من الفائزين الناجين يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .
التصوف هو الذي اهتم بهذا الجانب القلبي بالإضافة إلى ما يقابله من العبادات البدنية و المالية و رسم الطريق العملي الذي يوصل المسلم إلى أعلى درجات الكمال الإيماني و الخلقي
علم التصوف علم ليس يعرفه إلا أخو فطنة بالعـلم معــروف
و ليس يعرفه من ليس يشهده و ليس يشهد ضوء الشمس مكفوف
فعماد التصوف تصفية القلب من أوضار المادة ، و قوامه صلة الإنسان بالخالق العظيم . فالصوفي من صفا قلبه لله و صفت معاملته ، و اختلفوا في اشتقاق كلمة ( التصوف ) و فيه أقوال كثيرة .. حتى قال أبو الفتح السبتي رحمه الله :
تنازع الناس في الصوفي و اختلفوا و ظـنه البعض مشتقا من الصوف و لست أمنح هذا الاسم غير فـتى صفا فصوفي حتى سمي الصوفي
ومفهوم الصدق عند عوام المسلمين قاصر على صدق اللسان ، ولكن السادة الصوفية قصدوا بالصدق مفهومه العام الذي يشمل بالاضافة إلى صدق اللسان صدق القلب ، وصدق الافعال والاحوال والاقوال .
فالصدق بمفهومهم هذا صفة ينبغث منها العزم والتصميم والهمة على الترقي إلى معارج الكمال والتخلي عن الصفات الناقصة المذمومة .
قال الامام مالك بن انس : ( من تفقه ولم يتصوف فقد تفسق ومن تصوف ولم يتفقه فقد تزندق ومن جمع بينهما فقد تحقق ) وكان للإمام ابي حنيفة صلة مع كبار رجال الصوفية كالشيخ معروف الكرخي وداوود الطائي وغيرهما . والإمام الشافعي يصرح بصحبته للصوفية فيقول : ( صحبت الصوفية فأستفدت منهم قولهم الوقت كالسيف ان لم تقطعه قطعك وقولهم نفسسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل .)
لقد شوّه التصوف رجال مغرضون تزيوا بزيه وانتسبوا اليه فأساؤا اليه باقوالهم وافعالهم وسيرتهم والتصوف منهم براء ..
ويجب ان نفرق بين ادعياء التصوف المنحرفين وبين السادة الصوفية الصادقين العارفين . وليس المتصوف بإنحرافه وشذوذه ممثلا للتصوف . كما ان المسلم بأفعاله المنكرة ليس ممثلا لإسلامه ودينه .
اما إنكار بعض الناس على هذا اللفظ لإنه لم يسمع في عهد الصحابة والتابعين . مردود ، إذ كثير من الاصطلاحات احدثت بعد زمن الصحابة واستعملت ولم تنكر . كالنحو والفقه والمنطق ... والتصوف هو دعوة إلى تزكية النفوس وصفاء القلوب وإصلاح الاخلاق والوصول إلى مرتبة الاحسان . وسمي ذلك تصوفا .. وإن شئت فسمه الجانب الروحي في الاسلام .. او الجانب الاحساني .. او الجانب الاخلاقي .. او سمه ما شئت مما يتفق مع حقيقته وجوهره .إلا ان اسمه المتوارث بين علماء الامة هو التصوف .
وقد يتساءل الكثيرون عن السبب في عدم انتشار الدعوة إلى التصوف في صدر الاسلام وعدم ظهور هذه الدعوة الا بعد عهد الصحابة والتابعين ؟ والجواب عن هذا : انه لم تكن من حاجة اليها في العصر الاول لان اهل هذا العصر كانوا أهل تقوى وورع وارباب مجاهدات وإقبال على العبادة بطبيعتهم وبحكم قرب اتصالهم برسول الله صلى الله عليه وسلم . فكانوا يتسابقون ويتبادرون في الإقتداء به صلى الله عليه وسلم في ذلك كله فلم يكن ثمة ما يدعوا إلى تلقينهم علما يرشدهم إلى امر هم قائمون به فعلا . وإنما مثلهم في ذلك كله كمثل العربي القح يعرف اللغة العربية بالتوارث كابر عن كابر حتى أنه ليقرض الشعر البليغ بالسليقة والفطرة دون ان يعرف شيئا من قواعد اللغة ، والاعراب ، والنظم ، والقريض . فمثل هذا لا يلزمه ان يتعلم النحو ويدرس البلاغة . ولكن علم النحو وقواعد اللغة والشعر تصبح لازمة وضرورية عند تفشي اللحن وضعف التعبير .. او لمن يريد من الاجانب ان يتفهمها ويتعرف عليها أو عندما يصبح هذا العلم من ضروريات الاجتماع كبقية العلوم التي نشأت وتألفت على توالي العصور في اوقاتها المناسبة .
فالصحابة والتابعين وإن لم يتسموا بإسم المتصوفين ـ كانوا متصوفين فعلا وإن لم يكونوا كذلك إسما ـ وماذا يزاد بالتصوف اكثر من ان يعيش المرء لربه لا لنفسه ويتحلى بالزهد وملازمة العبودية والإقبال على الله بالقلب والروح في جميع الاوقات . وسائر الكمالات التي حفل بها الصحابة والتابعون من حيث الرقي الروحي إلى اسمى الدرجات .
فهم لم يكتفوا بالإقرار في عقائد الايمان والقيام بفروض الاسلام بل قرنوا الاقرار بالتذوق والوجدان . وزادوا على الفروض الإتيان بكل ما استحبه الرسول صلى الله عليه وسلم من نوافل العبادات وأبتعدوا عن المكروهات فضلا عن المحرمات حتى استنارت بصائرهم وتفجرت ينابيع الحكمة من قلوبهم وفاضت الاسرار الربانية على جوانحهم . وكذلك شأن التابعين وتابعي التابعين وهذه العصور الثلاثة كانت ازهى عصور الاسلام وخيرها على الاطلاق وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خير القرون قرني هذا فالذي يليه والذي يليه ) كما في الصحيحين .
ان الزهد الاسلامي الحق يسلم إلى الرفعة والعلو والنباهة والسمو وما كانت تمتد الاعناق وتطمح العيون إلى المسلمين وقتما كانوا متكيفين بأداب الاسلام : (( محمد رسول الله والذين معه اشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود )) هؤلاء ومن على شاكلتهم الزهاد الحق يبتغون فضل الله من مواضعه . ويستسقون الماء الزلال من منابعه ثم يتدفقون على السيوف وتفيض من بين اصابعهم في ذات الله الالوف :
نفسي فداء بني أم هم خلطوا
يوم العــوبة أورادا بأوراد
في المجد والشرف العالي ذوي أمل
وفي الحياة وفي الاموال زهاد
وفي كتاب ( شهيد المحراب عمر بن الخطاب ) يقول الاستاذ الاسلامي الكبير ( عمر التلمساني ) لا أكتب عن عمر رضي الله عنه مؤرخا ولكني اكتب عنه وليا من اولياء الله .. عمر الذي جملت هذه الولاية في كل مأخذ من مآخذ الحياة ، لا تفارقه في أي مذهب من مذاهبها تسدده وترشده وتهديه إلى كل ما يمكن ان يعرض لمسلم . ولاية الله صفته .. وخشية الله سريرته وعلانيته . وما يستهويني شيئ في الحياة ما يستهويني حب اولياء الله .
ان ولاية عمر رضي الله عنه جعلتني استعرض كل ما ربّا عمر المسلمين عليه من إيثار ، وتضحية ، وزهد ، وورع ، وأنفة ، وعدالة ، وصدق ورجولة ، وعزوف عن العاجل وحرصا على الآجل . فالدنيا عند الله اتفه من ان يجعلها ثوابا لمؤمن او عقاب لكافر ، وما عند الله خير وابقى من كل شيئ . وكان من جراء ذلك ان سمى عمر وسمى الذين معه لإنهم فهموا منه واخذوا عنه ..
فلو اتيح لنا ان نسلك سلوكه ونأخذ مآخذه لما انحدرنا إلى القاع السحيق الذي نعاني من واقعه وما نحس وما نرى وما نجد ..
وقد بنى أئمة التصوف الاولون اصول طريقتهم على الكتاب والسنة وعلى عقيدة أهل السنة والجماعة .. يقول سهل بن عبدالله التستري ـ المتوفى عام 283هـ رحمه الله ـ ( أصولنا سبعة اشياء : التمسك بكتاب الله تعالى ، و الاقتداء بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، و أكل الحلال ، وكف الاذاء ، واجتناب الآثام ، والتوبة ، واداء الحقوق ) .
قال ابن خلدون : ( إن التصوف من العلوم الشرعية الحادثة في الملة . وأصله ان طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق والهداية ، وأصلها العكوف على العبادة والإنقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه . والإنفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف . فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا إختص المقبلون على العبادة بإسم الصوفية .
وصار التصوف في الملة علما مدونا بعد ان كانت الطريقة عبادة فقط وكانت احكامها إنما تتلقى من صدور الرجال . )
المصدر :
http://www.salmzain.malware-site.www/ketabat.htm